ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصرهم غشاوة ولهم عذاب عظيم "7")
وكما أعطانا الحق سبحانه وتعالى أوصاف المؤمنين يعطينا صفات الكافرين .. وقد يتساءل بعض الناس إذا كان هذا هو حم الله على الكافرين؟ فلماذا يطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم الإيمان منهم وقد ختم الله على قلوبهم؟! ومعنى الختم على القلب هو حكم بألا يخرج من القلب ما فيه من الكفر .. ولا يدخل إليه الإيمان..
نقول أن الله سبحانه وتعالى غني عن العالمين .. فإن استغنى بعض خلقه عن الإيمان واختاروا الكفر .. فإن الله يساعده على الاستغناء ولا يعينه على العودة إلي الإيمان .. ولذلك فإن الحق سبحانه وتعالى يقول في حديث قدسي:
"أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حين يذكرني .. فإن ذكرني في نفسه، ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، وإن اقترب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا، وإن اقترب إلي ذراعا اقتربت إليه باعا وإن أتاني يمشي أتيته هرولة".
وقد وضح الحديث القدسي أن الله تبارك وتعالى يعين المؤمنين على الإيمان، وأن الله جل جلاله كما يعين المؤمنين على الإيمان .. فإنه لا يهمه أن يأتي العبد إلي الإيمان أو لا يأتي .. ولذلك نجد القرآن دقيقا ومحكما بأن من كفروا قد اختاروا الكفر بإرادتهم. واختيارهم للكفر كان أولا قبل أن يختم الله على قلوبهم .. والخالق جل جلاله أغنى الشركاء عن الشرك .. ومن أشرك به فإنه في غنى عنه.
أن الذين كفروا .. أي ستروا الإيمان بالله ورسوله .. هؤلاء يختم الله بكفرهم على آلات الإدراك كلها .. القلب والسمع والبصر. والقلب أداة إدراك غير ظاهرة .. وقد قدم الله القلب على السمع والبصر في تلك الآية لأنه يريد أن يعلمنا منافذ الإدراك .. وفي القرآن الكريم يقول الحق تبارك وتعالى:
{والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون "78" }
(سورة النحل)
وهكذا يعلمنا الله أن منافذ العلم في الإنسان هي السمع والأبصار والأفئدة .. ولكن في الآية الكريمة التي نحن بصددها قدم الله القلوب على السمع والأبصار .. أن الله يعلم أنهم اختاروا الكفر .. وكان هذا الاختيار قبل أن يختم الله على قلوبهم .. والختم على القلوب .. معناه أنه لا يدخلها إدراك جديد ولا يخرج منها إدراك قديم .. ومهما رأت العين أو سمعت الأذن .. فلا فائدة من ذلك لأن هذه القلوب مختومة بخاتم الله بعد أن اختار أصحابها الكفر وأصروا عليه .. وفي ذلك يصفهم الحق جل جلاله:
{صم بكم عمي فهم لا يرجعون "18"}
(سورة البقرة)
ولكن لماذا فقدوا كل أدوات الإدراك هذه؟ .. لأن الغشاوة التفت حول القلوب الكافرة، فجعلت العيون عاجزة عن تأمل آيات الله .. والسمع غير قادر على التلقي من رسول الله صلى الله عليه وسلم..
إذن فهؤلاء الذين اختاروا الكفر وأصروا عليه وكفروا بالله رغم رسالاته ورسله وقرآنه .. ماذا يفعل الله بهم؟ أنه يتخلى عنهم. ولأنه سبحانه وتعالى غني عن العالمين فإنه ييسر لهم الطريق الذي مشوا فيه ويعينهم عليه .. واقرأ قوله تبارك وتعالى:
{ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرين "36" }
(سورة الزخرف)
ويقول جل جلاله:
{هل أنبئكم على من تنزل الشيطان "221" تنزل على كل أفاكٍ أثيمٍ "222" }
(سورة الشعراء)
ومن عظمة علم الله تبارك وتعالى أنه يعلم المؤمن ويعلم الكافر .. دون أن يكون جل جلاله تدخل في اختيارهم .. فعندما بعث الله سبحانه وتعالى نوحا عليه السلام .. ودعا نوح إلي منهج الله تسعمائة وخمسين عاما. وقبل أن يأتي الطوفان علم الله سبحانه وتعالى أنه لن يؤمن بنوح عليه السلام إلا من آمن فعلا .. فطلب الله تبارك وتعالى من نوح أن يبني السفينة لينجو المؤمنون من الطوفان .. واقرأ قوله جل جلاله:
{وأوحى إلي نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون "36" وأصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون "37"}
(سورة هود)
وهكذا نرى أنه من عظمة علم الله سبحانه وتعالى .. أنه يعلم من سيصر على الكفر وأنه سيموت كافرا .. وإذا كانت هذه هي الحقيقة فلماذا يطلب الله تبارك وتعالى من رسوله صلى الله عليه وسلم أن يبلغهم بالمنهج وبالقرآن؟ .. ليكونوا شهداء على أنفسهم يوم القيامة .. فلا يأتي هؤلاء الناس يوم المشهد العظيم ويجادلون بالباطل .. أنه لو بلغهم الهدى ودعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لآمنوا .. ولكن لماذا يختم الله جل جلاله على قلوبهم؟ .. لأن القلب هو مكان العقائد .. ولذلك فإن القضية تناقش في العقل فإذا انتهت مناقشتها واقتنع بها الإنسان تماماً فإنها تستقر في القلب ولا تعود إلي الذهن مرة أخرى وتصبح عقيدة وإيمانا .. والحق سبحانه وتعالى يقول:
{فإنها لا تعمي الأبصار ولكن تعمي القلوب التي في الصدور }
(من الآية 46 سورة الحج)
وإذا عمى القلب عن قضية الإيمان .. فلا عين ترى آيات الإيمان .. ولا أذن تسمع كلام الله .. وهؤلاء الذين اختاروا الكفر على الإيمان لهم في الآخرة عذاب عظيم .. ولقد وصف الله سبحانه وتعالى العذاب بأنه أليم .. وبأنه مهين .. وبأنه عظيم .. العذاب الأليم هو الذي يسبب ألما شديدا .. والعذاب المهين هو الذي يأتي لأولئك الذين رفعهم الله في الدنيا .. وأحيانا تكون الإهانة أشد إيلاما للنفس من ألم العذاب نفسه .. أولئك الذين كانوا أئمة الكفر في الدنيا .. يأتي بهم الله تبارك وتعالى يوم القيامة أمام من اتبعوهم فيهينهم .. أما العذاب العظيم فإنه منسوب إلي قدرة الله سبحانه وتعالى .. لأنه بقدرات البشر تكون القوة محدودة .. أما بقدرات الله جل جلاله تكون القوة بلا حدود .. لأن كل فعل يتناسب مع فاعله .. وقدرة الله سبحانه وتعالى عظيمة في كل فعل .. وبما أن العذاب من الله جل جلاله فإنه يكون عذابا عظيما.